Monday, May 23, 2005

مصالحة أم مسامحة

كنت أجلس في أحد المقاهي المجاورة للطريق العام في منطقة الأشرفية، قرب ساحة ساسين مع بعض الأصدقاء، عندما سمعت صوت الزمامير الصادرة عن "كونفواه" من السيارات، التفتُّ لأرى "لمين الهيصة" فرأيت أعلام حزب القوات اللبنانية ترفرف في أيدي الجالسين على أبواب السيارات. لم أهتم للموضوع بما أن هذا النوع من "الكونفواهات" بات مألوفاً في الأيام الأخيرة في جميع المناطق ومن جميع الانتماءات وبالطريقة نفسها.

لكن بعد دقائق قليلة صُدمت، وانتابني شعور من الاستغراب الشديد والفرح عندما سمعت ترنيمة الزمور المخصصة للحكيم وبعدها ومن نفس السيارة ترنيمة الجنرال. علمت عندها أن هذا "الكونفواه" ليس تقليدي وأنه لا يشبه أبداً ما اعتدت عليه.

أن الأحداث الأخيرة التي جرت في لبنان كانت فريدة من نوعها إذ يبدو الوحدة والوفاق ترفرفان بأجنحتها فوق اللبنانيين. لكن السؤال الذي يطرح هو هل تتحول هذه المصالحة إلى مسامحة؟

بدأت القصة مع عودة الرئيس أمين الجميل إلى لبنان بعد طول اغتراب، وانخراطه بسهولة في اللعبة السياسية اللبنانية التي لم تتغير كثيراً منذ غياب الرئيس السابق. صافح الرئيس الجميل عدد من منافسيه وأعدائه، وشارك في الاجتماعات والخلوات على اختلافها ودعم نجله في الانتخابات النيابية. ثم حصلت مصالحة الجبل التي على الرغم من أهميتها وعمق دلالتها أصبحت اليوم أمراًَ مسلماً به، فان هذه المصالحة التي كانت تستطيع نظراً لأهميتها أن تقلب صفحة الحرب نهائياً تحولت إلى تاريخ أو مصطلح من لائحة المصطلحات والتواريخ الكبيرة جداً التي يستخدمها السياسيون والصحافيون في أحاديثهم ومقالاتهم.

وبعدها كان الحدث الأكبر، ليس مقارنةً بأهمية الأحداث السابقة، ولكن بوقع هذا الحدث على الشعب اللبناني: عودة العماد ميشال عون آخر الزعماء المبعدين، الذي صرَّح من "ساحة الحرية" أنه كان يتمنى لو أن قائد القوات اللبنانية كان موجوداً حراً معه ليشارك اللبنانيين فرحة التحرير. وكُرِّست هذه المصالحة بزيارة زوجة الحكيم، السيدة ستريدا جعجع، للجنرال في منزله مهنئةً بعودته.

رغم أنني لست من أنصار فكرة مشاركة أمراء الحرب، على تعدد طوائفهم وانتماءاتهم، في الحياة السياسية في لبنان، لكن هذه المشاهد لا تمر دون أن تترك تأثيراً كبيراً في نفسي. نظراً إلى أنني من مواليد أوائل الثمانينات فان حرب التحرير وحرب الإلغاء هي أكثر المعارك التي أثرت بي. كما إنني أعتقد أن "اتفاق الطائف" الذي أنهى الصراعات العسكرية، مما يجعله مجرد اتفاق لوقف إطلاق النار، لم يشفي الجروح في قلوب اللبنانيين ولم يزيل الشعور بالخوف والقلق من عودة الحرب. لكنني أعتقد أن ما يحصل اليوم في لبنان هو أحد آخر السطور في صفحة ذاكرة الحرب الجماعية.

أما السطر الأخير في هذه الصفحة فسيكون يوم يخرج سمير جعجع من السجن ويصافح ميشال عون. بالنسبة لي هذا المشهد سيكون الأكثر تأثيراً وقد يطوي في نفسي صفحة القلق والخوف التي لا تزال مفتوحة حتى الآن.

رغم أن هذه المصافحات والمصالحات المتعددة بين أعداء الأمس وحلفاء اليوم قد تريحني على المستوى النفسي، لكن العقل لا يرى فيها سوى مصافحات شكلية تخدم مصالح الأطراف المتعددة وليس مسامحة حقيقية تنهي الحرب الأهلية بالفعل، وهي لا يمكن أن تحصل في ظل المصالح السياسية الذاتية بل هي شعور بالعفو المتجرد من أي منفعة ذاتية.

فعلى سبيل المثال ان بعد الحرب اللبنانية حصل نوع من المصالحة بين الحزبين الشيعيين اللدودين حركة أمل وحزب الله، واقتصرت هذه المصالحة على التحالف في الانتخابات النيابية والبلدية لخدمة مصالح الحزبين السياسية. لكن هذه المصالحة لم تنعكس على أنصار هذين الحزبين الذين وإن كانوا ينتخبون اللوائح المتفق عليها بين القطبين الشعيين إلا أنهم لا يزالوا يكنون كراهية تتمثل في طريقة تعامل أولاد الضيعة الواحدة من أنصار الحزبين حيث لا تزال المشاكل حول تعليق صور شهداء حزب الله أو صور قائد حركة أمل تفجر الخلافات اليومية.

أما بالنسبة لـ"مطلقي الزمامير" فان معايشتي للشعب اللبناني علّمتني أن معظم اللبنانيين متقلبي المزاج وأنهم بالأخص يتبعون زعمائهم، على اختلافهم، بشكل نمطي. فان التبعية للزعيم لا تُعنى بالمواقف السياسية بل أنها في معظم الحالات تبعية مناطقية ووراثية. فنرى أنصار أحد الزعماء يغيرون مواقفهم حسب مزاجية ومصلحة زعمائهم. يكفي أن نتابع تحركات أنصار رئيس الحزب التقدمي الاشتراك البيك وليد جنبلاط التي تهلل للوزير السابق مهما تغيرت مواقفه وتبدلت تحالفاته.

لكن دون شك أن هذه المصالحة (مصالحة من مصالح) تقفل باب حقبة تاريخية لم تخلُ من العنف والدماء، وتبشر بحقبة جديدة لن تخلو من المواجهات والخلافات التي نرجو أن تكون سلمية.

0 Comments:

Post a Comment

<< Home